يقول الحق تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الأنفال: 45].
يشير المعنى المباشر لهذه الآية الكريمة إلى وجوب ثبات المسلمين عند لقاء عدوهم.
وهذا الأمر يشير بدوره إلى حقيقة مهمة؛ وهي أن أمة الإسلام هي أمة الجهاد، فما أنزل الله كتابه ولا شرع شريعته إلا وهو سبحانه يعلم أن أهل الباطل لن يرضيهم أن يعلو ذلك الكتاب ولا أن تسود تلك الشريعة في أرض الله، ولذا فقد صارت المواجهة مع الباطل حتمية لا مفر منها، وبدهي أن يتوجه الخطاب حينئذ لهذه الأمة بوجوب الثبات في وجه الأعداء ساعة النزال.
ثم إن الله تعالى لما أمر بالثبات؛ أمر معه بما ييسره ويعين عليه، فقد أمر معه بذكره تعالى وهل هناك أجدى في تثبيت النفوس من ذكر الله تعالى؟!
ولقد كان الجاهليون الجهال يستذكرون من يحبون ساعة لقاء عدوهم، لعلهم بذلك يستلهمون القوة والثبات، ألم تسمع إلى قول عنترة العبسي مخاطباً عبلة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فهذا شأن أهل الجاهلية، أما أهل الإيمان فليس أعظم تأثيراً في نفوسهم، ولا أقوى في رفع معنوياتهم من ذكرهم لبارئهم ومولاهم.
وذلك أن ذكر الله هو - كما يقول صاحب "الظلال" رحمة الله عليه - (الاتصال بالقوة التي لا تغلب والثقة بالله الذي ينصر أولياءه، وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها فهي معركة لله... لا للسيطرة ولا للمغنم ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي... كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله- في أحرج الساعات وأشد الأوقات).
ثم إن معنى الثبات في الإسلام يتسع ليكون حالة دائمة تحمل المسلم على التمسك بما هو عليه من الحق في وجه ما يلقاه من الباطل وأهله، فإن وقعت فتنة تلقاها بالثبات، وإن وردت شبهة دفعها بالثبات، وإن خطرت شهوة ردها بالثبات، والثبات في مثل هذه المواقف يعني اليقين بصدق ما نحن عليه من الحق، وبأن النصر لا بد أن يكون للإسلام في نهاية المطاف.
وإنك لتلمس هذا المعنى في كثير من المواطن التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يثبت فيها أصحابه، أو يأمرهم بالثبات، فقد كان الربط دائماً يأتي بين الثبات واليقين، ففي أشد حالات الضعف في العصر المكي كان تركيزه صلى الله عليه وسلم على تقوية اليقين باعتباره من أقوى الأسباب المعينة على الثبات في الدين.
انظر إليه صلى الله عليه وسلم حين جاءه أصحابه وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقالوا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟! فقال لهم: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)
فهو صلى الله عليه وسلم حين يأمرهم بالثبات، يذكرهم بما لقيه قبلهم أهل الحق من الأذى والابتلاء، ثم يعدهم وعداً صادقاً لا شك فيه؛ أن الله تعالى ناصر دينه ومتم أمره.
ونفس الأمر يتكرر حين تألبت عليهم الأحزاب يوم الخندق، حيث ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً - كما ذكر القرآن الكريم - في ذلكم الموقف الرهيب يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، ويكون من طريقته في ذلك أن يغرس في قلوبهم اليقين بنصر الله الذي يتجاوز حدود رد هؤلاء الأحزاب على أعقابهم إلى ما هو أبعد من ذلك وأشمل، فيبشرهم بكنوز كسرى وقيصر.
فعن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، قال: فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم... ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول فقال: (بسم الله)، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا)، ثم قال: (بسم الله)، وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا)، ثم قال: (بسم الله)، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)
وإذا كان الثبات مقروناً باليقين في أول الأمر، فكذلك هو في آخره.
الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من فتنة الدجال، وأمرنا إن ابتلينا به بالصبر والثبات، وعدم الاغترار بما يكون معه من مظاهر القوة المادية.
قد قال صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من حلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله اثبتوا)
وقد ذكر لنا رسول الله مثالاً لهذا الثبات؛ حين أخبرنا بالخبر الصادق عن رجل مؤمن يثبت في وجه فتنة الدجال ويكون اليقين عدته في ذلك الثبات.
فقد جاء في حديث أبي سعيد أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فتلقاه المسالح مسالح الدجال، فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج)، قال: (فيقولون: له أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم - يقصدون الدجال - أن تقتلوا أحداً دونه)، قال: (فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال: (فيأمر الدجال به فيشبح، فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً)، قال: (فيقول: أو ما تؤمن بي؟ قال فيقول: أنت المسيح الكذاب)، قال: (فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه)، قال: (ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً)، قال: (ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة)، قال: (ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس)، قال: (فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلاً)، قال: (فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) .