ستثير هذه الرواية الكثير من الجدل حتمًا بعدما اقتنصت جائزة البوكر العربية في الرواية لهذا العام، ليصبح صاحبها «عبده خال» أول كاتب سعودي يفعلها، ورغم اللغط الذي قد يثيره البعض حول حياد لجنة الجائزة بسبب جنسية الفائز- وكأن الجوائز الأدبية المرموقة حكرًا علي المصريين والشوام والمغاربة فقط-، فإن الرواية تستحق القراءة والاهتمام بالفعل والمجهود المبذول فيها يؤهلها للمنافسة علي الجائزة التي يحسم أمرها لجنة تحكيم يفترض فيها الحياد إلا قليلا بسبب النوازع البشرية بكل تأكيد.
اسم الرواية مقتبس من الآيتين رقمي 32 و33 من سورة المرسلات «إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر»، والمقصود بما يرمي الشرر في القرآن الكريم هو «النار» أو جهنم، وهو الاسم الذي اتخذه أهالي ذلك الحي المتاخم للبحر في جدة اسمًا للمنطقة التي يعيشون فيها أو لا يعيشون لا فارق، والسبب في هذه التسمية هو أن الفقر والبؤس يعشش في المكان الذي تطفح فيه المجاري وقلت فيه سبل الرزق حتي صار الأمل الوحيد في حياة أخري نظيفة هو الدخول إلي ذلك القصر الذي ظهر فجأة علي حدود منطقتهم ملتهمًا مساحات جمة من ذكريات طفولتهم وبراءتهم وأراضيهم والبحر باعتباره الجنة التي يتمنون الدلوف إليها بأي طريقة «من هذا القصر ستخرج الحياة.. قصر منيف يبهر الناظرين فمن يراه لايشك بتاتًا في كونه هبة نزلت من السماء كما لو كان قطرة ماء تجمدت قبل أن تستقر علي الأرض، فغدا معلقا بين ماءين لتتعلق به العيون، والأفئدة، وتغدو أمنية من رآه في الخارج رؤيته من الداخل» لكن الراوي يصدم القراء في الصفحات المبكرة حينما يقول: «أظن أن أهل حيّنا مازالوا يوسون بأحلامنا القديمة ويقلبون احتمالات السؤال: كيف السبيل لدخول القصر؟ بينما نحن «الذين بالداخل» نحصي الأيام للخروج منه»، والسبب في ذلك هو: «تمنحك الحياة سرها متأخرا حين لا تكون قادرا علي العودة إلي الخلف».
استطاع الراوي أن يدخل إلي الجنة /القصر إذن، لكن مهمته بالداخل تليق بالعاملين في جهنم «اليوم أنهيت أعسر عملية تعذيب قمت بها خلال عملي داخل القصر، كنت قد أقلعت عن أداء هذا الدور، إلا أن السيد رغب أن أنهي وظيفتي بهذه العملية الأخيرة كما قال، وإن كنت أشك في كل ما يقول». ليكن السؤال المهم هو: مَنْ إذن صاحب هذا القصر الجميل المرعب «في البدء تخبطت المقولات عن مالك القصر فلا أحد يعرف بالتحديد اسم مالكه، أو من أين قدم، أو لماذا اختار هذه البقعة لكي يقيم هذا القصر المنيف. حزمة من الأقاويل والإشاعات تدور حول مالكه، وعندما انحصرت الأسماء في شخصيات بعينها أحجمنا جميعًا عن تسمية صاحب القصر.. وإن كان أغلبنا يجسد المالك الحقيقي في شخصيات محددة من أعيان البلد إلا أن الخشية من التصريح باسم أحدها قادتنا إلي اختيار التورية دربا آمنا للحديث عن القصر وصاحبه، وإطلاق لقب السيد علي مالكه»، هكذا يختار «عبده خال» أن يجعل مالك القصر هو «السيد»، لا اسم محدد ولا مهمة أو وظيفة واضحة المعالم يشغلها، وهكذا لا يصبح «السيد» هنا هو صاحب ذلك القصر في جدة فحسب، وإنما هو صاحبه في أي بلدة أخري تتوافر فيها ذات الأحوال والمآسي وما أكثرها، وليتضح أن الرواية لا تتكئ فقط علي ذلك التناقض المرعب الذي تعيشه العديد من المجتمعات العربية وغيرها، وإنما أيضا تروي فصولا من انكسار أنفس البسطاء أصحاب الأحلام البسيطة تحت سطوة أصحاب القصور والفجور.
تستمر ثنائية «حي جهنم/ القصر» طوال غالبية أحداث الرواية، التي يتمتع صاحبها بنفس حكاء، وأسلوب يزاوج بين السخرية والألم، ويلجأ إلي تضفير الأحداث بكولاج ذكي من مقتطفات الصحف والمواقع بعد نهاية الرواية في لعبة درامية جاذبة، وكأنه يضفي علي أبطال الرواية المتدفقة ملامح واقعية، أو كأنه يرجعها بالأساس إلي أصلها الذي استوحي منه العالم الخاص الذي صنعه في «ترمي بشرر»، التي فيما يؤكد أحد أبطالها أن «الأحلام هي المخدر الذي نحقن به لنعيش لحظة غيبوبة نشيد فيها كل أمنياتنا القبيحة» يأتي الختام علي لسان البطل متصلا تماما بوجع الأحلام التي رأي فيها نفسه يقتل «سيد القصر» دون أن يستطيع أن يفعل ذلك مطلقًا: «آه كم هي المسافة بعيدة بين الواقع والخيال».